سورة آل عمران - تفسير تفسير أبي السعود

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (آل عمران)


        


{إِنَّ الذين يَكْفُرُونَ بآيات الله} أيَّ آيةٍ كانت فيدخُل فيهم الكافرون بالآيات الناطقةِ بحقية الإسلام على الوجه الذي مر تفصيلُه دخولاً أولياً {وَيَقْتُلُونَ النبيين بِغَيْرِ حَقّ} هم أهلُ الكتاب قتل أوّلوهم الأنبياءَ عليهم السلام وقتلوا أتباعَهم وهم راضون بما فعلوا وكانوا قاتلهم الله تعالى حائمين حول قتلِ النبي صلى الله عليه وسلم لولا أن عصَم الله تعالى ساحتَه المنيعة، وقد أُشير إليه بصيغة الاستقبال، وقرئ بالتشديد للتكثير، والتقييدُ بغير حق للإيذان بأنه كان عندهم أيضاً بغير حق {وَيَقْتُلُونَ الذين يَأْمُرُونَ بالقسط مِنَ الناس} أي بالعدل، ولعل تكريرَ الفعل للإشعار بما بين القتلين من التفاوت أو باختلافهما في الوقت، عن أبي عبيدة بن الجراح قلتُ: يا رسول الله أيُّ الناسِ أشدُّ عذاباً يوم القيامة؟ قال: «رجل قتل نبياً، أو رجلاً أمر بمعروف ونهي عن منكر» ثم قرأها ثم قال: «يا أبا عبيدة قتلت بنو إسرائيلَ ثلاثةً وأربعين نبياً من أول النهار في ساعة واحدة فقام مائةٌ واثنا عشرَ رجلاً من عبّاد بني إسرائيل فأمروا قَتلَتهم بالمعروف ونهَوْهم عن المنكر فقُتلوا جميعاً من آخر النهار» وقرئ {ويقاتلون} الذين {فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} خبر إن والفاء لتضمن اسمها معنى الشرط فإنها بالنسخ لا تغير معنى الابتداء بل تزيده تأكيداً وكذا الحال في النسخ بأن المفتوحة كما في قوله تعالى: {واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُم مّن شَىْء فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ} وكذا النسخ بلكن كما في قوله:
فوالله ما فارقتُكم عن ملالة *** ولكنّ ما يقضى فسوف يكون
وإنما يتغير معنى الابتداء في النسخ بليت ولعل وقد ذهب سيبويه والأخفش إلى منع دخول الفاء عند النسخ مطلقاً فالخبر عندهما.


قوله تعالى: {أُولَئِكَ الذين حَبِطَتْ أعمالهم فِي الدنيا والاخرة} كما في قولك: الشيطانُ فاحذر عدوٌ مبين وعلى الأول هو استئناف واسم الإشارة مبتدأ وما فيه من معنى البعد للدِلالة على ترامي أمرهم في الضلال وبُعد منزلتهم في فظاعة الحال، والموصولُ بما في حيز صلته خبرُه أي أولئك المتصفون بتلك الصفات القبيحة أو المبتلون بأسوأ الحال الذين بطلت أعمالُهم التي عمِلوها من البر والحسنات ولم يبق لها أثر في الدارين بل بقي لهم اللعنة والخزيُ في الدنيا وعذاب أليم في الآخرة {وَمَا لَهُم مّن ناصرين} ينصرونهم من بأس الله وعذابِه في إحدى الدارين، وصيغةُ الجميع لرعاية ما وقع في مقابلته لا لنفي تعددِ الأنصار من كل واحد منهم كما في قوله تعالى: {وَمَا للظالمين مِنْ أَنصَارٍ}.
{أَلَمْ تَرَ} تعجيبٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لكل من يتأتى منه الرؤيةُ من حال أهل الكتاب وسوءِ صنيعِهم، وتقرير لما سبق من أن اختلافهم في الإسلام إنما كان بعد ما جاءهم العلم بحقّيته أي ألم تنظرُ {إِلَى الذين أُوتُواْ نَصِيبًا مّنَ الكتاب} أي التوراةِ على أن اللامَ للعَهدْ وحملُه على جنس الكتبِ الإلهية تطويلٌ للمسافة إذ تمامُ التقريب حينئذ بكون التوراة من جملتها لأن مدار التشنيع والتعجيب إنما هو إعراضُهم عن المحاكمة إلى ما دُعوا إليه وهم لم يُدْعَوا إلا إلى التوراة، والمرادُ بما أوتوه منها ما بُيِّن لهم فيها من العلوم والأحكام التي من جملتها ما علِموه من نعوت النبي صلى الله عليه وسلم وحقّية الإسلام، والتعبيرُ عنه بالنصيب للإشعار بكمال اختصاصِه بهم وكونِه حقاً من حقوقهم التي يجبُ مراعاتُها والعملُ بموجبها وما فيه من التنكير للتفخيم، وحملُه على التحقير لا يساعده مقامُ المبالغة في تقبيح حالِهم {يُدْعَوْنَ إلى كتاب الله} الذي أوتوا نصيباً منه وهو التوراة، والإظهارُ في مقام الإضمار لإيجاب الإجابة، وإضافتُه إلى الاسم الجليلِ لتشريفه وتأكيدِ وجوب المراجعةِ إليه، والجملةُ استئنافٌ مبيِّنٌ لمحل التعجيب مبنيّ على سؤال نشأ من صدر الكلام كأنه قيل: ماذا يصنعون حتى ينظُرَ إليهم؟ فقيل: يُدعون إلى كتاب الله تعالى، وقيل: حال من الموصول {لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ} وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل مِدراسَهم فدعاهم إلى الإيمان فقال له نعيمُ بن عمرو، والحارث بن زيد: على أيّ دين أنت؟ قال عليه الصلاة والسلام: «على ملة إبراهيم» قالا: إن إبراهيمَ كان يهودياً فقال صلى الله عليه وسلم لهما: «إن بيننا وبينكم التوراةَ فهلُمّوا إليها» فأبيا. وقيل: نزلت في الرجم وقد اختلفوا فيه وقيل: {كتاب الله} القرآنُ فإنهم قد علموا أنه كتابُ الله ولم يشكوا فيه، وقرئ {ليُحكَم} على بناء المجهول فيكون الاختلافُ بينهم بأن أسلم بعضُهم كعبد اللَّه بن سلام وأضرابه وعاداهم الآخرون {ثُمَّ يتولى فَرِيقٌ مّنْهُمْ} استبعاد لتولّيهم بعد علمِهم بوجوب الرجوع إليه {وَهُم مُّعْرِضُونَ} إما حال من {فَرِيقٌ} لتخصصه بالصفة أي يتولون من المجلس وهم معرضون بقلوبهم، أو اعتراضٌ أي وهم قوم ديدنُهم الإعراضُ عن الحق والإصرارُ على الباطل.


{ذلك} إشارة إلى ما مر من التولي والإعراض، وهو مبتدأ خبرُه قوله تعالى: {بِأَنَّهُمْ} أي حاصل بسبب أنهم {قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النار} باقتراف الذنوب وركوب المعاصي {إِلا أَيَّامًا معدودات} وهي مقدارُ عبادتهم العجلَ، ورسَخ اعتقادُهم على ذلك وهوّنوا على أنفسهم الخطوب {وَغَرَّهُمْ فِى دِينِهِم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} من قولهم ذلك وما أشبهه من قولهم: إن آباءنا الأنبياءَ يشفعون لنا أو إن الله تعالى وعد يعقوبَ عليه السلام ألا يعذبَ أولادَه إلا تحِلّةَ القَسَم ولذلك ارتكبوا ما ارتكبوا من القبائح {فَكَيْفَ} ردٌّ لقولهم المذكور وإبطالٌ لما عراهم باستعظام ما سيدهَمُهم وتهويلِ ما سيحيق بهم من الأهوال أي فكيف يكون حالُهم؟ {إِذَا جمعناهم لِيَوْمٍ} أي لجزاءِ يوم {لاَ رَيْبَ فِيهِ} أي في وقوعه ووقوعِ ما فيه، روي أن أولَ رايةٍ ترفع يوم القيامة من رايات الكفر رايةُ اليهود فيفضَحُهم الله عز وجل على رؤوس الأشهاد ثم يأمر بهم إلى النار {وَوُفّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ} أي جزاءَ ما كسبت من غير نقص أصلاً كما يزعُمون، وإنما وُضِع المكسوبُ موضعَ جزائه للإيذان بكمال الاتصالِ والتلازم بينهما كأنهما شيء واحد، وفيه دَلالة على أن العبادة لا تَحْبَط وأن المؤمن لا يخلّد في النار لأن توْفيةَ جزاءِ إيمانِه وعملِه لا تكون في النار ولا قبل دخولها فإذن هي بعد الخلاصِ منها {وَهُمْ} أي كلُّ الناس المدلولِ عليهم بكل نفس {لاَ يُظْلَمُونَ} بزيادة عذابٍ أو بنقص ثواب بل يصيب كلاً منهم مقدارُ ما كسبه {قُلِ اللهم} الميم عوضٌ عن حرف النداء ولذلك لا يجتمعان وهذا من خصائص الاسمِ الجليل كدخوله عليه مع حرف التعريفِ وقطعِ همزتِه ودخولِ تاء القسمِ عليه وقيل: أصلُه يا ألله أُمَّنا بخير أي اقصدنا به فخُفف بحذف حرف النداء ومتعلقاتِ الفعل وهمزته {مالك الملك} أي مالك جنسِ المُلك على الإطلاق مُلكاً حقيقياً بحيث تتصرف فيه كيفما تشاء إيجاداً وإعداماً وإحياءً وإماتة وتعذيباً وإثابةً من غير مشارِك ولا ممانعٍ وهو نداءٌ ثانٍ عند سيبويه فإن الميم عنده تمنع الوصفية {تُؤْتِى الملك} بيان ق لبعض وجوه التصرفِ الذي تستدعيه مالكيةُ الملك وتحقيقٌ لاختصاصها به تعالى حقيقةً وكونِ مُلك غيرِه بطريق المجاز كما يُنبىءُ عنه إيثارُ الإيتاءِ الذي هو مجردُ الإعطاء على التمليك المؤْذِن بثبوت المالكيةِ حقيقةً {مَن تَشَاء} أي إيتاءه إياه {وَتَنزِعُ الملك مِمَّن تَشَاء} أي نزْعَه منه، فالملكُ الأولُ حقيقي عام ومملوكيتُه حقيقية والآخرانِ مجازيان خاصان ونِسبتُهما إلى صاحبهما مجازية، وقيل: الملكُ الأول عام والآخرانِ بعضانِ منه فتأمل. وقيل: المراد بالملك النبوة ونزعُها نقلُها من قوم إلى آخرين {وَتُعِزُّ مَن تَشَاء} أن تُعِزَّه في الدنيا أو في الآخرة أو فيهما بالنصر والتوفيق {وَتُذِلُّ مَن تَشَاء} أن تُذِله في إحداهما أو فيهما من غير ممانعةٍ من الغير ولا مدافعة {بِيَدِكَ الخير} تعريفُ الخير للتعميم، وتقديمُ الخبر للتخصيص أي بقدرتك الخيرُ كلُّه لا بقدرة أحدٍ غيرِك تتصرف فيه قبضاً وبسطاً حسبما تقتضيه مشيئتُك، وتخصيصُ الخير بالذكر لما أنه مقضيٌّ بالذات وأما الشرُّ فمقضيٌّ بالعَرَض إذ ما من شر جزئي إلا وهو متضمِّنٌ لخير كلي أو لأن في حصول الشر دخْلاً لصاحبه في الجملة لأنه من أجزية أعماله، وأما الخير ففضلٌ محضٌ أو لرعاية الأدب أو لأن الكلام فيه فإنه رُوي أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما خط الخندق عام الأحزاب وقطع لكل عشرةٍ من أهل المدينة أربعين ذِراعاً وأخذوا يحفِرونه خرج من بطن الخندق صخرةٌ كالتل لم تعمَلْ فيها المعاوِلُ فوجهوا سلمانَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يُخبره فجاء عليه السلام وأخذ منه المِعْول فضربها ضربة صدعَتْها وبرَقَ منها برقٌ أضاء ما بين لابتيها لكأن مِصباحاً في جوف بيت مظلم فكبر وكبر معه المسلمون وقال:
«أضاءت لي منها قصورُ الحِيرة كأنها أنياب الكلاب» ثم ضرب الثانية فقال: «أضاءت لي منها القصورُ الحُمْرُ من أرض الروم» ثم ضرب الثالثة فقال: «أضاءت لي قصورُ صنعاء وأخبرني جبريلُ أن أمتي ظاهرةٌ على كلها فأبشروا» فقال المنافقون: ألا تعجبون؟ يُمنّيكم ويعِدُكم الباطلَ ويخبركم أنه يُبصر من يثربَ قصورَ الحِيرة ومدائن كسرى وأنها تُفتح لكم وأنتم إنما تحفِرون الخندقَ من الفرَق لا تستطيعون أن تبرُزوا فنزلت {إِنَّكَ على كُلّ شَىْء قَدِيرٌ} تعليل لما سبق وتحقيقٌ له.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8